الخميس، 12 ديسمبر 2024

العواصم

 المرة الأولى التي زرت بها بغداد عاصمة بلدي العراق، انبهرت! 

الناس، الانفتاح، البساطة، اكل الشوارع، كتب شارع المتنبي، روائح المدينة، الاهازيج، الاحتفالات، الجميع يتلهف للقاءات و تجمعات و صخب و اجتماعات و حب للحياة. شيء ما افتقدته في سنين عمري الكثيرة في مدينتي الام، الموصل. و الموصل على كثرة الاحداث التي عصف بها الزمان مدينة خجولة، محافظة، هادئة، رتيبة، ساكنة، لسببٍ ما ربما لكثرة النزاعات و الحروب و موقعها الجغرافي الذي يربط الشرق بالغرب! ربما نعول كثيراً على هذه النقطة و الحقيقة الموصل ليست المدينة الوحيدة التي توقفت عندها القوافل التجارية سابقاً. شيئ ما حدث في الماضي غير شخصية المدينة. أصبحت نحيلة، كأنها جُرفت مع تغيرات الزمان.. رُبما ؟! 

رحلتي لم تتوقف عند بغداد. الوجهة الجديدة كانت إسطنبول! لِمَ لا؟ إسطنبول عانت الأمرين رٌبما، حروب طاحنة، غزو و مجازر و تغييرات عصفت بالبلاد (الامبراطورية؟). و اسطنبول تُذكرني ببغداد. صخب العواصم يعود من جديد، يبدو بأن الناس يحبون الحياة في العواصم أكثر من المٌدٌن التي تقع خارج هذا الإطار (ربما الدخل المادي، الفلوس ؟) و اسطنبول كانت نسختي الأولى من عاصمة العالم. تخيلت لو ان للعالم عاصمة واحدة من تكون؟ اسطنبول.. الجواب بسيط! 

أشد الرِحال مرةً أُخرى و هذه المرة أتوقف عند الخليج العربي.. الإمارات، دٌبي العاصمة التجارية، و من ثم أبو ظبي العاصمة الإدارية لللإمارات العربية المتحدة. كوكب آخر، لامعة، صاخبة و هادئة، جميلة، الجميع هنا يبدو سعيد، و الجميع يلتقط الصور يميناً و شمالاً. حتى إشارات المرور تبهرني هنا في هذه المدينة. المقاهي، المتاحف، المكتبات، المولات، الأزقة، كل شيئ مبهر. ثم قلتها و أخيراً دبي تصلح لان تكون عاصمة العالم. ببساطة هذه المدينة إحتوت الجميع من الشرق الى الغرب (لا أحد يسأل من أين أنت؟ أنت اهلُ لهذه المدينة و ان سكنت بها يوماً واحداً، عجيبة هذه المدينة!).

أضع حاجياتي في حقيبتي، ألتفت مرة أخرى صوب المطار، أُحلق هذه المرة بإتجاه الغرب.. بإتجاه القارة التي يسمونها عجوزاً: أوربا.

بدت لي من نافذة الطائرة خضراء، مليئة بالحقول و الاشجار. و عندما حطت الطائرة باريس و اخذت الباص الى مركز المدينة.. إنبهرت.. و قلت مع نفسي: أرى بأنني اسكن في هذه المدينة، اتنقل بين شوارعها و اعمل في رأس الجادة. الموضة، الاناقة، الشياكة، الجميع مسرع، هنا لا وقت لحديث صغيراو سوالف عن السياسة و الاخبار. اليوم قصير و لا وقت لاحاديث الصباح، كوب القهوة اهم! اذكر بأنني توقفت امام دار الاوبرا و قلت: هذه هي عاصمة العالم. المدينة الساحرة. هي مدينة الحب أليس كذلك؟ اذاً تكون عاصمة العالم. 

ضننت بأنني سوف استقر على عاصمة ما و اعلنها عاصمة للعالم و اغلق هذا الباب الذي ظل يشغلني فترة من الزمن. مرت ستة اشهر و انا في العراق.. و عندما حملت حقائبي للمطار، كنت مصراً بأن العاصمة القادمة لا\لن تصلح لأن تكون عاصمة العالم فهي بعيدة و ربما لا تصلح بيئتها لان تكون مدينة حالمة. و لكن.. كنتُ مخطئاً، فوجهتي كانت نيروبي عاصمة كينيا، و هذه المدينة عاصمة القهوة و الاغاني و السعادة و البساطة و الحلم الافريقي، و الاشجار و الحقول في كل مكان و على طيلة ايام السنة. حبُ الناس، الصمود، قهوة الصباح التي ترسم الابتسامة على وجه الناس. كلُ شيئ يشي بالطمأنينة، من الشمال الى الجنوب، و من الشرق الى الغرب. قلت، ها هي.. عاصمة العالم: نيروبي.

أعود الى العراق، أُدون في صفحة جديد: نيروبي عاصمة العالم. 

أٌلملم حاجياتي مرة أخرى و أنطلق لعواصم جديدة: وارسو، فيينا، ستوكهولم، كوبنهاجن، برلين، و في كل مرة اتوقف، و افتح صفحة جديدة في دفتر مذكراتي لاكتب عاصمة العالم الجديدة.

كل المدن، حتى حطت قدماي على الاراضي البريطانية: لندن! لن أنسى هذا اليوم على الاطلاق. اذكر جيدا الرحلة من مطار هيثرو الى محطة جسر لندن. أذكر بأنني نزلت و اخذت الباص الى النُزُل. تركت حقائبي و نزلت تحت الارض لآخذ المترو. بدون وجهة، حتى وجدت نفسي في وسط المدينة.. عند ساعة بيغ بين او برج الساعة. جلست عند نهر التايمز.. اخرجت دفتر مذكراتي الصغير، صفحة جديدة.. و كتبت هنا عاصمة العالم.. هنا لندن!

في زياراتي هذه حرصت على رؤية الوجه الآخر للمدن، استنتجت بأن كل المدن تصلح بشكل او بآخر بأن تكون عاصمةً للعالم. بغداد العاصمة الاولى التي زرتها، كانت تصلح بأن تكون عاصمة عالمي الذي أحب ان اراه.. و اكتشفت بأن عاصمة العالم هي مقياس نسبي لتجربتي التي هي تجربة غير طبيعية تختلف اختلافا جذرياً عن تجربة الآخر.. و تحديد مدينة واحدة عاصمة للعالم مقياس غير عادل ان لم أزر جميع عواصم العالم.. اذ انني لم ازر شرق آسيا و لا جميع دول افريقيا و لدي الامريكيتين و استراليا و نيوزليندا ..

العواصم.. تنبض بالحياة.. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تذكرة قطار و كوب قهوة و كتاب و وجهة غير مألوفة

 تذكرة قطار و كوب قهوة و كتاب و وجهة غير معروفة هي كل ما تحتاج للإبتعاد عن كل شيئ حولك. نعم، لقد فعلتها مراراً. كُلما نفرت من منطقة الراحة، ...